مكانة المهن الحرة في النظام الاقتصادي والضريبي المصري
تشكل المهن غير التجارية، أو ما يُعرف بالمهن الحرة، عموداً فقرياً للخدمات المتخصصة في أي اقتصاد حديث. تشمل هذه الفئة الأطباء، المحامين، المهندسين، المحاسبين القانونيين، والاستشاريين، حيث يعتمد دخلهم بشكل أساسي على الخبرة الشخصية والجهد البشري (عنصر العمل) وليس بالدرجة الأولى على المضاربة التجارية أو رأس المال.
في البيئة الضريبية المصرية، تخضع إيرادات هذه المهن لإطار ضريبي مزدوج ومعقد:
أولاً، ضريبة الدخل على الأرباح (قانون 91 لسنة 2005)،
وثانياً، الضريبة على القيمة المضافة (VAT) أو ضريبة الجدول (قانون 67 لسنة 2016).
إن الفهم الدقيق لكيفية تفاعل هذين القانونين معاً هو أساس الامتثال الضريبي الصحيح.
هذا المقال يقدم تحليلاً مفصلاً لكيفية تعامل القانون رقم 67 لسنة 2016 مع الخدمات المهنية والاستشارية، ويسلط الضوء على التحديات الإجرائية والمالية التي تواجه أصحاب هذه المهن.
______________________________________________________________________________________________
المحور الأول: الإطار العام لضريبة الدخل على إيرادات المهن غير التجارية
قبل التعمق في ضريبة القيمة المضافة، من الضروري تأكيد أن إيرادات المهن الحرة تخضع لضريبة الدخل على الأشخاص الطبيعيين.
1. أساس المحاسبة: الأساس النقدي
على عكس النشاط التجاري الذي يتبع مبدأ الاستحقاق (تسجيل الإيرادات والمصروفات بمجرد حدوثها)، يتم عادةً محاسبة المهن الحرة على الأساس النقدي. أي يتم تسجيل الإيرادات فقط عند تحصيلها فعلياً، والمصروفات عند سدادها فعلياً.
2. تحديد الوعاء الضريبي (صافي الربح)
يتم احتساب الوعاء الضريبي (صافي الربح) عن طريق خصم كافة التكاليف والمصروفات اللازمة لمزاولة المهنة من الإيرادات الكلية المحققة.
- المصروفات الحكمية (10%): يسمح القانون بخصم نسبة 10% من الإيرادات الكلية كمصروفات حكمية (مقابل المصروفات الشخصية التي قد يصعب إثباتها)، بالإضافة إلى المصروفات الفعلية الموثقة.
- الخصم تحت حساب الضريبة (5%): تلتزم الجهات التي تتعامل مع أصحاب المهن الحرة بخصم نسبة 5% من قيمة الأتعاب المدفوعة تحت حساب ضريبة الدخل المستحقة على الممول. يتم تسوية هذه المبالغ المخصومة عند تقديم الإقرار الضريبي السنوي.
______________________________________________________________________________________________
المحور الثاني: أحكام ضريبة القيمة المضافة على المهن الحرة (قانون 67 لسنة 2016)
جاء قانون الضريبة على القيمة المضافة ليوسع نطاق الخدمات الخاضعة للضريبة، وشمل الخدمات المهنية والاستشارية، لكن بآلية مختلفة عن السعر العام (14%).
1. الخضوع لـ "ضريبة الجدول" لا "السعر العام"
تخضع معظم الخدمات المهنية والاستشارية لـ ضريبة الجدول الملحقة بالقانون (البند 12 من الجدول)، وليس للسعر العام للضريبة (14%).
- النسبة المطبقة: النسبة الحالية المطبقة على إيرادات المهن الحرة (كالمحاسبة، المراجعة، الاستشارات الهندسية والقانونية) هي 10% ضريبة جدول.
- الهدف: جاء هذا التمييز في المعاملة للتخفيف من العبء الضريبي على هذه الخدمات، ولأنها غالباً ما تكون مدخلات لخدمات أخرى.
2. شرط التسجيل في ضريبة القيمة المضافة
يُلزم القانون أصحاب المهن الحرة بالتسجيل في نظام الضريبة على القيمة المضافة متى تجاوزت قيمة إيراداتهم السنوية (المبيعات أو الخدمات) حد التسجيل الإلزامي الذي يقرره القانون (500 ألف جنيه مصري حالياً في اللائحة التنفيذية للقانون).
- متى يتم التسجيل؟ يجب على الممول التسجيل خلال ثلاثين يوماً من تاريخ بلوغ هذا الحد.
- الإجراءات: يتطلب التسجيل تقديم طلب إلى مصلحة الضرائب المصرية والحصول على شهادة التسجيل ورقم التسجيل الضريبي الموحد.
3. السمة الفارقة: ضريبة الجدول هي ضريبة نهائية (غير قابلة للخصم)
الخاصية الأكثر أهمية التي يجب على أصحاب المهن الحرة إدراكها هي الطبيعة النهائية لضريبة الجدول على الخدمات المهنية.
الخدمات التجارية (14%)
يمكن خصم ضريبة القيمة المضافة المدفوعة على المشتريات والمصروفات (مثل شراء جهاز كمبيوتر أو دفع إيجار).
الممول يضيف 14% على سعر الخدمة ويورد الفارق بين المحصل والمدفوع.
الخدمات المهنية (10% جدول)
لا يُسمح بالخصم. ضريبة الجدول تُعتبر ضريبة نهائية.
الممول يضيف 10% على سعر الخدمة ويورد المبلغ المحصل كاملاً للمصلحة.
النتيجة: يتحمل صاحب المهنة الحرة ضريبة القيمة المضافة (14%) على جميع مشترياته، بينما يتحمل العميل ضريبة الجدول (10%) على الخدمة المقدمة.
______________________________________________________________________________________________
المحور الثالث: تحديات الامتثال والإجراءات الإلزامية
تشكل هذه الازدواجية في المعالجة تحديات محاسبية وإجرائية تتطلب الاستعانة بخبرة متخصصة.
1. الالتزام بالإقرار الشهري لضريبة القيمة المضافة (الجدول)
بخلاف إقرار ضريبة الدخل السنوي، فإن التسجيل في ضريبة القيمة المضافة يفرض التزاماً بتقديم إقرار شهري (أو ربع سنوي في بعض الحالات) حتى لو لم تتحقق إيرادات في ذلك الشهر (يتم تقديم إقرار "صفري").
- المواعيد: يجب تقديم الإقرار قبل نهاية الشهر التالي للشهر الذي انتهت فيه الفترة الضريبية.
- العقوبات: التأخير في تقديم الإقرار أو سداد الضريبة المستحقة يؤدي إلى فرض غرامات وضرائب إضافية قد تكون جسيمة.
2. الفاتورة الإلكترونية والمخاطر الضريبية
مع التحول نحو نظام الفاتورة الإلكترونية في مصر، أصبح لزاماً على أصحاب المهن الحرة المسجلين في ضريبة القيمة المضافة إصدار فواتير إلكترونية تلتزم بالشكل والمحتوى الذي حددته مصلحة الضرائب.
- الأهمية للمحاسب القانوني: توفير الفاتورة الإلكترونية وتضمينها قيمة ضريبة الجدول بشكل صحيح يضمن الاعتراف بالإيراد ويقلل من مخاطر التقدير الجزافي للضريبة، ويُعد دليلاً على الامتثال.
3. المراجعة والتقدير الجزافي
يواجه العديد من أصحاب المهن الحرة مشكلة التقدير الجزافي لإيراداتهم من قبل مأموريات الضرائب، خاصة إذا لم يتمكنوا من إثبات مصاريفهم بدقة أو لم يلتزموا بسجلات منتظمة.
- دور المحاسب القانوني: يتدخل المحاسب القانوني ليس فقط لإعداد الإقرار الضريبي، بل لتوثيق المصروفات، مطابقة خصومات الـ 5%، ومراجعة تطبيق ضريبة الجدول لتقليل الفجوات بين الإيرادات المعلنة والتقديرات الضريبية، والطعن في التقديرات غير العادلة.
______________________________________________________________________________________________
إن تعقيد النظام الضريبي الحالي في مصر، الذي يفرض ضريبة دخل على صافي الربح (على الأساس النقدي)، وضريبة قيمة مضافة (جدول) على الإيرادات (بشكل شهري وغير قابل للخصم)، يجعل الامتثال الذاتي مهمة صعبة.
إن الاستعانة بمحاسب قانوني وخبير ضرائب ليس مجرد نفقات تشغيلية، بل هو استثمار استراتيجي يهدف إلى:
- تقليل العبء الضريبي من خلال الاستفادة من جميع المصروفات المسموح بخصمها وتطبيق الإعفاءات المقررة.
- ضمان الامتثال الإجرائي بتقديم الإقرارات الشهرية والسنوية في مواعيدها.
- تخفيف المخاطر القانونية المتعلقة بالتهرب الضريبي أو التقديرات الجزافية، وتأمين موقف الممول في حالة الفحص.
يجب على كل محترف يمارس مهنة حرة أن يعي أن اللجوء إلى خبرة متخصصة أصبح ضرورة لا غيار عنها لضمان دقة مركزه المالي وسلامة موقفه الضريبي في ظل قانون الضريبة على القيمة المضافة (67 لسنة 2016).